بقلم : محمد العيسى
ذكرَ لَنا القرآنُ الكريم قِصَةَ قوم سبأٍ، وكَيفَ أنّ الله ألهَمَهُم طَريقَةَ بِناءِ سَدِ مَأرب وَالذي كانَ بِدايةَ عهدٍ زاهرٍ بالنسبَةِ لهُم، مِن بَعدِ ماكانوا يُعانونَهُ مِن قَحطٍ وشُحّ في الماء. حَتى أصبَحت قريتهم آيةً في الجمال، (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، وصارت رمالُ الصحراءِ بُسُطاً هندسيةً خضراء، تجري بينها أنهار المياه العذبة، وتمتلىءُ بِالأشجارِ المُثمِرةِ والخُضرَواتِ النَّضرَةِ والأزهارِ الملونةِ. وكان مِن غزارةِ ما تُعطي تلك البساتين أنّ المرأةَ كانت تَخرجُ ومعها مغْزلها وعلى رأسِها وعاءٌ من قشٍ فتَلتَهي بمغزَلِها، وتمشي بين الأشجارِ المثمرةِ فلا تأتي بيتَها حتى يمتلىءَ وعاؤُها من كلِ الثمارِ من كثرتِهِ على الشجرِ من غيرِ أن تمسَّها بيدِها. حتى أُشير لهم بالبنانِ وتمنت كلُ البُلدانِ أن يَنعَموا ولو بالنَزرِ اليَسيرِ مِما عِندَهم.
ولكِنَهم في المُقابِل لم يشكُروا تلكَ النِعمة التي أنعم الله بِها عَليهم، وبالغوا في إسرافهم وتبذيرهم، حتى باتوا لا يَجِدون مِن سَبيلٍ ناجعٍ للتَخلُصِ مما بقي من طعام في موائِدِهم. فَسَلط الله عَليهم دابةً صغيرةً تنخرُ أساسات السد حتى انهار، وتدفقتِ المياهُ سيولاً جارفةً تهدمُ ما هو أمامَها، وتُغرِقُ الناسَ في بيوتِهم وتدمِرُها، وانطلقتِ المياهُ الحبيسةُ في شعابِ الوادي وبين الأشجارِ، فغرقَ الزرعُ، وهلَكَ الضَّرْعُ، وعادَ الوادي كما كانَ صحراءَ مقفرةً صامتةً، لا نباتَ فيها سوى أشجارٌ لا تثمرُ إلا كلَّ مُرٍ بشعٍ وبعضَ الأنواعِ التي لا نفعَ فيها. فكُفرهم بالنعمةِ بالإسرافِ والتبذير، أودى بهم الى ما آلو إليهِ من عذابٍ دنيويٍ وهلاكٍ أخروي.
وللأسفِ الشديد، في وقتِنا الحالي لسنا بأفضلِ حالٍ منهم، فبعدما أن منَّ الله علينا بِنِعَمِه، وباتت الكثير من الدول تحلمُ بشئٍٍ بسيطٍ مما نحنُ فيهِ، أصبحنا نبتكرُ بل ونُبدعُ طُرقَ الإسرافِ والتبذيرِ وهدرِ النعم. فمنا من يطبخ الأوراق النقدية ومنا من يغسل يدي ضيوفه بالعود، ناهيك عن الولائم التي تُذبح فيها عشرات الأغنام والجمال إكراماً لشخصٍ واحدٍ أو شخصين، والكثير من صور التبذير التي لا يستوعبها مقال أو حتى كتاب. إذ من المتوقع أن تبلغ كمية النفايات ـ من الأطعمة - لسنة واحدة ١٤ مليون طن بنهاية ٢٠١٦، بناءً على ما أورده وكيل وزارة الشؤون البلدية والقروية للشؤون البلدية يوسف السيف محدّدًا كلفة جمع مخلفات الأطعمة ونقلها والتخلص منها بنحو ٦٣٠ مليون ريال سنوياً. في حين أشار المدير التنفيذي لجمعية، إطعام الخيرية، عبد الله الثنيان، إلى أن ثلث الطعام الذي يُطبخ يذهب هدراً في النفايات. كما نُقِلَ بياناً عن وزارة الزراعة السعودية وجود كميات كبيرة من المواد الغذائية لا تتمّ الإستفادة منها، وأضافت أن حجم الفاقد من الهدر الغذائي بلغ ٢٥٠ كجم للفرد الواحد سنوياً. وبذلك نكون قد تفوقنا بمراحل على قوم سبأ والأمم السابقة ولا مجال للمقارنة.
وها هو شهرُ رمضان على الأبواب، حيثُ نَتَفِقُ أخيراً نَحنُ المُسلِمون ونقفُ يداً بيد لِهدرِ ما تَبَقى مِن طَعام في المحال التجارية. إذ يَذهبُ كلٌ منا ليملأ عربةَ التسوقِ خاصتهِ قدر الإمكان بما يحتاجُ وما لا يحتاج من الأطعمةِ والأشربةِ والحلوى والمسليات، و يتبعها بعربةٍ أخرى إن لم تكفي، حتى أني رأيتُ في السنةِ الماضيةِ من اشتَرى ما لاتكفي سيارته لنقله. ولو كان ما اشترا يؤكل ولا يرمى، لما نَبَستُ بِبنتِ شَفه، ولكن كُلنا يعلمُ مَصيرَ هذهِ الأطعمة. كُلنا على يقينٍ بأن الكمياتِ التي تُطهى وتُحضّر يومياً، سيكون مؤالُ الكثيرِ مِنها إلى مَكَبِ النفايات، وهُناكَ جُزءٌ لا يُستَهانُ بهِ، يبقى إلى مابعد رمضان حتى إنتهاءِ مدةِ صلاحيته ومصيره كَمصيرِ ما سبقه في رمضان، مكب النفايات. ولا يقتصر الإسراف في رمضان على الأسر الميسورة الحال فقط، بل يشمل – وللأسف الشديد - غالبية الأسر من مختلف الطبقات والفئات.
يجب على كلِ ذي لب أن يدرك ما نحن فيه ويتدارك هذا الخلل، بشراء ما يكفي حاجته فقط، وأيضاً تحضير المقدار الكافي من الطعام، حتى لا يصل بنا الحال في نهاية المطاف الى مغبة التبذير. وليكن شعارنا (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ) حتى لا نكون (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ).