عبدالرحمن العاطف
حين أعود بشريط الذكريات وأقلب الافكار بداخلي أجد ذاك الشيخ الوقور ( جارنا ) فلان والذي لا يبعد عن بيتنا سوى بمنزلين ما أن يسمع صوت الحق يرتفع حتى يلبيه على عصاه المتعرجة تسبقه الخطى ، وما أن يفرغ منها يتكء على عصاه ويعود ويقف بناصية الطريق ليأخذ حاجاته من طعام وشراب جامعاً تلك الاكياس البلاستيكية في يديه المتجعدة والعرق يتصبب في لهيب الشمس لحين عودته لمنزله مثقلاً باحماله .
أما جارنا الآخر فيفضل الانطواء إلا ممن يزوره من ( خواصه ) ، عفيفاً حيوياً أذا ما لاقيته هشاً بشاً غلب العُزلة على المشاركة رحل هو الأخر وجارنا الثالث كان يفضل التنفس بين معداته التي عشقها وبادلها العطاء والوفاء حتى في أخر أيامه لا نراه إلا مع دنوء ظلام الليل .
تغيرت ملامح حينا بجيل جديد لا نعرفهم إلا حين يعرفون بأسمائهم ، تبدلت تلك العصا بوقارها وتعرجاتها إلى هاتف محمول يخالسونه النظرات حتى وان رُفع صوت الآذان ، وأن ذهبوا لأداء الصلاة ، ولم يعد يُرى في الحي من يستل دقائق من وقته ليخبرك عن أحواله وحال فلان بن فلان والطقس والسوق ، تشبثوا بالتقنية حتى سكنتهم ، رحل جيل أبي ومن رافقوه في تكوين ذلك الحي فرحمات من الله على قبورهم .