• ×

10:00 صباحًا , الأحد 22 جمادي الأول 1446 / 24 نوفمبر 2024


دخيل القحطاني يكتب "اترك فيك شيئاً لا يُطال"

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
بقلم "دخيل القحطاني"
بقلم "دخيل القحطاني"
يقال إن أي فضيلة، تختبئ عادةً في الوسط بين رذيلتين، فالكرم فضيلة وسط بين رذيلتي البخل والتبذير، بحيث إذا بالغ الانسان في إطلاق يده سيقع في المحظور وهو التبذير، وإذا بالغ في إمساكها سيقع في محظور آخر وهو البخل، وقس على ذلك، فالشجاعة هي الوسط بين رذيلتي الجبن والتهور، والحياء وسط بين الخجل والوقاحة وهكذا.. ولكن يبقى السؤال هل نستطيع أن نسقط مثل هذه المفاهيم على علاقتنا وتعاملنا مع الاخرين: في المنزل وفي بيئة العمل، أو مع الأصدقاء والجيران وكل المعارف؟ كيف ستبدو شخصيتنا بكل ما تحمله من مبادئ وقيم واسرار وأحاسيس ومشاعر أمام هذا المزيج من البشر ذوي الطباع المختلفة والعواطف المتباينة والأمزجة التي لا تتشابه ولا يمكن أن تتشابه بأي حال، هل نوطن أنفسنا على الوضوح والانفتاح الكامل على الآخر من جهة، أم على الغموض وترك مساحة خالية في تعاملنا معهم من جهة أخرى؟ أم نحاول البحث عن منطقة بين هذا وذاك عندما نتعامل مع هؤلاء الآخرين؟

الحقيقة يختلف الناس في تقديرهم لهذا الأمر، وهو اختلاف منطقي ومبرر، ثمة من يقول لك : كن صريحا على أي حال، فالصراحة راحة، أبح بكل ما لديك ولا تخشى شيئا، أفرغ ما في جعبتك ولن تندم، كن مع الآخرين تماما مثلما تكون مع نفسك، شارك الجميع خبراتك وتجاربك، بنجاحاتها واخفاقاتها وحلوها ومرها، فالمعرفة ملك للجميع وليس لك وحدك...الخ .

ولكن تقديري الشخصي أن الأمر جد مختلف، فأنا أميل لفكرة الوسط الذهبي التي أشرت إليها في بداية المقال، فما دام الناس مختلفين وسيظلون مختلفين، فليس من الحكمة أن تكون صريحا معهم جميعا على الدوام. يقول فرويد( لا يستحق كل الناس أن نقول لهم كل الحقيقة) فبعض الناس لا تهمه الحقيقة من بعيد ولا من قريب، لديه فكرة مسبقة عن الشيء المعني، فهو غير مستعد أصلا لسماع الحقيقة، أو وجهة النظر الأخرى فلماذا ترهق نفسك مع أمثال هؤلاء ؟ فهذا النوع من البشر موجود بيننا على أي حال ولن نستطيع إلغاء وجوده، فليس هناك ثمة شيء يغريني بأن أكون واضحا وصريحا معه، أو أن أمضى معه حتى نهاية الشوط، فإذا كان هو غير مستعدا لسماع الحقيقة، فأنا بالمقابل لست مُؤَذَّن عند أَصَمَّ.

بالإضافة لذلك أقول أن إضفاء غموض نسبي على شخصيتك وأفكارك وأهدافك في الحياة هو أمر مطلوب بشدة لأنه يثير غريزة الفضول لدى الآخر ويجعله متحفزا لفهم ما لا يعرفه عنك. فهو بالتالي مضطر لإن يسخر كل حواسه لفهمك ومعرفة ما لديك من أفكار جديدة، وهذا أسلوب شائع جدا، فنجد في القرآن مثلا عندما سأل الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام عن ما في يمينه، فأجاب موسى (هذه عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) فهو لم يوضح طبيعة هذه المآرب الأخرى وترك الأمر غامضا، رغم أن الله تعالى يعلم كل شيء وليس في حاجة لسؤاله حتى عن هذه المآرب، ناهيك عما في يده، فهو يعلم السر وأخفى، ولكنه الغموض المحفز الذي يضفي شيء من الإثارة والتشويق للفهم.

كما قلت أن الغموض محفز دائما لعادات التفكير والتأمل والتدبر التي هي سنن لابد من اتباعها لاكتشاف المجهول والذي هو دوما ما يكون كنزا غاليا وجائزة كبرى غير متاحه الا لمن يبذل غاية الجهد، فلماذا ترخص نفسك وعقلك وتجعل ما اكتسبته بالسنوات وبالجهد والمشقة والعرق سهلا ميسورا و مبذولا في الطريق لمن هب ودب كما نقول؟ ، بالطبع لا أعني أن يكون الانسان لغزا محيرا وطلسما يحتاج لشفرة سرية حتى يُفهم، ولكن البساطة المفرطة والوضوح الشديد يفقدان اللعبة إثارتها وجاذبيتها . يستحضرني في هذا السياق قول للشاعر العربي أبي تمام المتهم بالغموض في شعره عندما قيل له : لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فأجاب عليهم : ولماذا لا يفهمون ما أقول؟. فعلى العموم نقول إن ما يكتسب بالصعوبة والجهد أدنى لأن يبقى وينتفع به، من الذي يتم الحصول عليه بالسهولة واليسر.

وغير ذلك نقول إن إنضاج الأفكار وموازنة الأمور والتفكير من كل الزوايا يقتضي شيئا من الرزانة والتمهل دائما. وهي من أسباب رجاحة العقل وسلامة التفكير، كما أنه ليس كل ما تعرفه يعد صحيحا من كل الوجوه، وليس كل ما تعرفه لابد أن يقال ويُصرح به على الملأ، فهناك أشياء تعني زيد ولا تعني عبيد، وهناك أشياء لا تعني عمرو ولكنها تعني خالدا، فلكل مقام مقال، وبعض الصلوات سراً وبعضها جهراً.

وهناك من يكفيه التلميح وهناك من لا يفهم حتى بالتصريح، وهناك من يقرأ ما بين السطور وهناك من لا يستطيع قراءة السطور نفسها. والشاعر قديما قال إياك أعني فأسمعي يا جارة.

فكثرة الكلام لم تكن في يوم هي دليل علم ولا علامة ذكاء، فالذين يعرفون الكثير دائما ما يتحدثون قليلا والذين يعرفون القليل دائما يتحدثون كثيرا، فالبراميل الفارغة لديها قدرة فائقة على الضجيج .

وأخيرا أقول ليس من الحصافة أن تكشف نقاط ضعفك للآخرين، فلا تدري ما سيأتيك به الغد من أنباء، لعلها قد تكون هي الرصاصات التي ستصرعك، فصديق اليوم قد يكون عدو الغد. وفرويد يقول لك : أجعل فيك دائما جزءاً غامضا يبني عليه الآخرون آمالهم .
بقلم "دخيل القحطاني"

 0  0  4.4K

التعليقات ( 0 )

قناتنا على اليوتيوب

آخر التعليقات

من القلب الف شكر ابا ابراهيم على جهودك الإعلاميه وتغطياتك المتميزه دوما  اقول لك كفيت ووفيت فعلا
مقصورة #الراجحي تحتفل بـ #اليوم_الوطني_94

20 ربيع الأول 1446 | 1 | | 258
  أكثر  
الف الف مبروك صحيفة وطنيات ومنها للأعلى إن شاء الله عالميه
وطنيات تحصل على العلامة الذهبية على منصة "أكس"

26 محرم 1446 | 1 | | 227
  أكثر  
الطريق لم يتصل ببعضه فكيف يطرح للصيانة قبل اكتماله 
طريق خاط ثلوث المنظر تجرفه السيول والنقل ترد

17 محرم 1446 | 1 | | 338
  أكثر  
سوق الإثنين من الأسواق القديمة جدا وكان إلى وقت قريب يرتاده المتسوقون وحاليا، طاله الإهمال. بلدية ال
بالصور - سوق الأثنين الأسبوعي في بارق بين الأهمال ومُطالبات الأهالي

16 محرم 1446 | 1 | | 204
  أكثر  
جميع الأوقات بتوقيت جرينتش +3 ساعات. الوقت الآن هو 10:00 صباحًا الأحد 22 جمادي الأول 1446 / 24 نوفمبر 2024.