بقلم "دخيل القحطاني"
الحقيقة يختلف الناس في تقديرهم لهذا الأمر، وهو اختلاف منطقي ومبرر، ثمة من يقول لك : كن صريحا على أي حال، فالصراحة راحة، أبح بكل ما لديك ولا تخشى شيئا، أفرغ ما في جعبتك ولن تندم، كن مع الآخرين تماما مثلما تكون مع نفسك، شارك الجميع خبراتك وتجاربك، بنجاحاتها واخفاقاتها وحلوها ومرها، فالمعرفة ملك للجميع وليس لك وحدك...الخ .
ولكن تقديري الشخصي أن الأمر جد مختلف، فأنا أميل لفكرة الوسط الذهبي التي أشرت إليها في بداية المقال، فما دام الناس مختلفين وسيظلون مختلفين، فليس من الحكمة أن تكون صريحا معهم جميعا على الدوام. يقول فرويد( لا يستحق كل الناس أن نقول لهم كل الحقيقة) فبعض الناس لا تهمه الحقيقة من بعيد ولا من قريب، لديه فكرة مسبقة عن الشيء المعني، فهو غير مستعد أصلا لسماع الحقيقة، أو وجهة النظر الأخرى فلماذا ترهق نفسك مع أمثال هؤلاء ؟ فهذا النوع من البشر موجود بيننا على أي حال ولن نستطيع إلغاء وجوده، فليس هناك ثمة شيء يغريني بأن أكون واضحا وصريحا معه، أو أن أمضى معه حتى نهاية الشوط، فإذا كان هو غير مستعدا لسماع الحقيقة، فأنا بالمقابل لست مُؤَذَّن عند أَصَمَّ.
بالإضافة لذلك أقول أن إضفاء غموض نسبي على شخصيتك وأفكارك وأهدافك في الحياة هو أمر مطلوب بشدة لأنه يثير غريزة الفضول لدى الآخر ويجعله متحفزا لفهم ما لا يعرفه عنك. فهو بالتالي مضطر لإن يسخر كل حواسه لفهمك ومعرفة ما لديك من أفكار جديدة، وهذا أسلوب شائع جدا، فنجد في القرآن مثلا عندما سأل الله سبحانه وتعالى نبيه موسى عليه السلام عن ما في يمينه، فأجاب موسى (هذه عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى) فهو لم يوضح طبيعة هذه المآرب الأخرى وترك الأمر غامضا، رغم أن الله تعالى يعلم كل شيء وليس في حاجة لسؤاله حتى عن هذه المآرب، ناهيك عما في يده، فهو يعلم السر وأخفى، ولكنه الغموض المحفز الذي يضفي شيء من الإثارة والتشويق للفهم.
كما قلت أن الغموض محفز دائما لعادات التفكير والتأمل والتدبر التي هي سنن لابد من اتباعها لاكتشاف المجهول والذي هو دوما ما يكون كنزا غاليا وجائزة كبرى غير متاحه الا لمن يبذل غاية الجهد، فلماذا ترخص نفسك وعقلك وتجعل ما اكتسبته بالسنوات وبالجهد والمشقة والعرق سهلا ميسورا و مبذولا في الطريق لمن هب ودب كما نقول؟ ، بالطبع لا أعني أن يكون الانسان لغزا محيرا وطلسما يحتاج لشفرة سرية حتى يُفهم، ولكن البساطة المفرطة والوضوح الشديد يفقدان اللعبة إثارتها وجاذبيتها . يستحضرني في هذا السياق قول للشاعر العربي أبي تمام المتهم بالغموض في شعره عندما قيل له : لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فأجاب عليهم : ولماذا لا يفهمون ما أقول؟. فعلى العموم نقول إن ما يكتسب بالصعوبة والجهد أدنى لأن يبقى وينتفع به، من الذي يتم الحصول عليه بالسهولة واليسر.
وغير ذلك نقول إن إنضاج الأفكار وموازنة الأمور والتفكير من كل الزوايا يقتضي شيئا من الرزانة والتمهل دائما. وهي من أسباب رجاحة العقل وسلامة التفكير، كما أنه ليس كل ما تعرفه يعد صحيحا من كل الوجوه، وليس كل ما تعرفه لابد أن يقال ويُصرح به على الملأ، فهناك أشياء تعني زيد ولا تعني عبيد، وهناك أشياء لا تعني عمرو ولكنها تعني خالدا، فلكل مقام مقال، وبعض الصلوات سراً وبعضها جهراً.
وهناك من يكفيه التلميح وهناك من لا يفهم حتى بالتصريح، وهناك من يقرأ ما بين السطور وهناك من لا يستطيع قراءة السطور نفسها. والشاعر قديما قال إياك أعني فأسمعي يا جارة.
فكثرة الكلام لم تكن في يوم هي دليل علم ولا علامة ذكاء، فالذين يعرفون الكثير دائما ما يتحدثون قليلا والذين يعرفون القليل دائما يتحدثون كثيرا، فالبراميل الفارغة لديها قدرة فائقة على الضجيج .
وأخيرا أقول ليس من الحصافة أن تكشف نقاط ضعفك للآخرين، فلا تدري ما سيأتيك به الغد من أنباء، لعلها قد تكون هي الرصاصات التي ستصرعك، فصديق اليوم قد يكون عدو الغد. وفرويد يقول لك : أجعل فيك دائما جزءاً غامضا يبني عليه الآخرون آمالهم .