بقلم الدكتور عبدالله بن سعيد الأسمري
وإنى رأيت الناس إلا أقلهم
خفاف العهود يكثرون التنقلا(الشعر والشعراء لابن قتيبة، 1/208)
أو أنه يستغرب أن يُكتب عن الوفاء وهو في زمن كله أوفياء وهذا مُحال كماقال امرؤالقيس:
إِذا قُلتُ هَذا صاحِبٌ قَد رَضيتُهُ
وَقَرَّت بِهِ العَينانِ بُدِّلتُ آخَرا
كَذَلِكَ جَدّي ما أُصاحِبُ صاحِب
مِنَ الناسِ إِلّا خانَني وَتَغَيَّرا
انظر ديوان امرؤالقيس و(ظاهرة الغدر في المعتقدات والقيم، ص 109.)
او الثالثة وهي أنه ممن أبتلُي بالإعراض عن كل مكتوب يُقرأ ومنطوق نافع يُسمع ولم يستفد من قول أمير الشعراء أحمد شوقي :
أَنا مَن بَدَّلَ بِالكُتبِ الصِحابا
لَم أَجِد لي وافِياً إِلّا الكِتابا
صاحِبٌ إِن عِبتَهُ أَو لَم تَعِب
لَيسَ بِالواجِدِ لِلصاحِبِ عابا
كُلَّما ...أَخلَقتُهُ ....جَدَّدَني
وَكَساني مِن حِلى الفَضلِ ثِيابا
وما جعلني أرغب في جمع شواهد الموضوع الذي كَتب عنه غيري مئات الصفحات واستوفى حقه بكل أبعاده ما قاله الحريري: (تعامل القرن الأول فيما بينهم بالدين زمانًا طويلًا حتى رقَّ الدين، ثم تعامل القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء، ثم تعامل القرن الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعامل القرن الرابع بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم صار الناس يتعاملون بالرغبة والرهبة)[4082] ((آداب الصحبة)) للسلمي (ص73). فالوفاء بالعهدمن صفات النفوس الحرة الأبية ومن لوازم القلوب الصافية النقية وهو حفظ للعهد والوعدواعتراف بالجميل وشكر للمعروف وهو نقيض الغدر والخيانة والنكران ،
إن خلق الوفاء عربي بإمتياز
ألفته العرب في جاهليتها وكان العربي لا يغدر في جاهليته وفي مقولات العرب: هو أوفى من الحارث بن عباد. ويقول السرديون العرب إنه كان من وفائه انه أسر عدي بن ربيعةولم يعرفه فقال: دلني على عدي فقال: إن أنا دللتك على عدي أتؤمنني؟ قال: نعم. قال: فأنا عدي. فخلاه.
وفي الديباج لأبي عبيدة: عن وفاء العرب في العصر الجاهلي أنَّ الشاعر السموأل له قصة وفاء معروفةمع الشاعر الكندي امرئ القيس،وتقول الحكاية إنَّ امرأ القيس عندما أراد اللحاق بقيصر طلبًا منه المساعدة ليأخذ بثأر أبيه المقتول، أودع دروعه وحاجياته عند السموأل ثم رحلَ، ولما سمع أحد ملوك الشام بموت امرئ القيس، توجَّه إلى السموأل وطالب بتسليمه ما أودعه عنده، فرفض تسلميه ما لديه من حاجيات امرئ القيس، وكان للسموأل ابنٌ خارج الحصن، فأمسك به الملك الذي طالب بحاجيات امرئ القيس، ثم قال لوالدِهِ: "هذا ابنك في يدي وقد علمتَ أنَّ امرأ القيس ابن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحق بميراثه، فإنْ دفعتَ إليَّ الدروع فيها وإلا ذبحتُ ابنك"، فرفض السموأل أن يعطيه مرادَهُ، وقال: "ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع"، فذبح الملك ابنه أمامه وهو ينظر لذلك، ثم انتظر الشاعر إلى أن أتى ورثة امرئ القيس الحقيقيون فأعطاهم حاجيات امرئ القيس، فأصبحت العرب تضرب المثل للوفاء بالسموأل الذي آثر أن يموت ابنه قتلًا أمامه على أن يعطي الملك أمانةً أودعها أحدٌ عنده، وقال شعرًا في هذه الحادثة:
وفيت بأدرعِ الكنديِّ إني
إذا ما خانَ أقوامٌ وفيتُ
وقالوا إنه كنزٌ رغيبٌ
ولا والله أغدر ما مشيتُ
لهذا اتخذت العرب من هذا النموذج الانساني مثلًا شاع وانتشر بين القبائل وهو "أوفى من السموأل"، وهذا المثل يُضرب لشدة الوفاء.
وقد تأثّرَ الشاعر العربيّ الكبير وصاحب إحدى المعلقات العشر ميمون بن قيس الملقب بالأعشى بقصة الوفاء بين امرئ القيس والسموأل، فكتبَ قصيدة طويلة عن حادثة الوفاء تلك، وقال فيها:
شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنّي بَعْدَ مَا عَلِقَتْ
حِبالَكَ اليَوْمَ بَعْدَ القِدّ أظْفارِي
شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنّي بَعْدَ مَا عَلِقَتْ
حِبالَكَ اليَوْمَ بَعْدَ القِدّ أظْفارِي
قَدْ طُفْتُ ما بَينَ بَانِقْيَا إلى عَدَنٍ وَطالَ في العُجْمِ تَرْحالي وَتَسيارِي
فكانَ أوْفاهُمُ عَهْداً، وَأمنَعَهُمْ جاراً أبوكَ بعرفٍ غيرِ إنكارِ
كالغيثِ ما استمطرتْهُ، جادَ وابلهُ وعندَ ذمتّهِ المستأسدُ الضّاري
كنْ كالسموأل إذْ سارَ الهمامُ لهُ في جحفلٍ كسوادِ اللّيلِ جرّارِ
جارُ ابن حيّا لمنْ نالتهُ ذمتهُ أوْفَى وَأمْنَعُ مِنْ جَارِ ابنِ عَمّارِ
بالأبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ حصنٌ حصينٌ وجارٌ غيرُ غدّارِ
إذْ سامَهُ خُطّتَيْ خَسْفٍ، فَقالَ له: مهما تقلهُ، فإنّي سامعٌ حارِ
فَقالَ: ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أنتَ بَينَهُما فاخترْ وما فيهما حظٌّ لمختارِ
فشكّ غيرَ قليلٍ، ثمّ قالَ لهُ: اذبحْ هديَّكَ إني مانعٌ جاري
إنّ لهُ خلقاً إنْ كنتَ قاتلهُ وَإنْ قَتَلْتَ كَرِيماً غَيرَ عُوّارِ
مالاً كثيراً وعرضاً غيرَ ذي دنسٍ وإخوةً مثلهُ ليسوا بأشرارِ
جَرَوْا عَلى أدَبٍ مِنّي، بِلا نَزَقٍ ولا إذا شمرتْ حربٌ بأغمارِ
وَسَوْفَ يُعقِبُنيِهِ، إنْ ظَفِرْتَ بِهِ ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطهارِ
لا سرُّهنّ لدينا ضائعٌ مذقٌ وكاتماتٌ إذا استودعنَ أسراري
فقالَ تقدمةً، إذْ قامَ يقتلهُ: أشرفْ سموألُ فانظرْ للدّمِ الجاري
أأقتُلُ ابْنَكَ صَبْراً أوْ تَجيءُ بِهَا طَوْعاً، فَأنْكَرَ هَذا أيَّ إنْكَارِ
فشكّ أوداجهُ والصّدرُ في مضضٍ عليهِ، منطوياً كاللّذعِ بالنّارِ
واختارَ أدراعهُ أنْ لا يسبّ بها وَلمْ يكُنْ عَهْدُهُ فِيهَا بِخَتّارِ
وَقالَ: لا أشْتَرِي عاراً بمَكْرُمَةٍ فاختارَ مكرمةَ الدّنيا على العارِ
وَالصّبْرُ مِنْهُ قَدِيماً شِيمَةٌ خُلُقٌ وزندهُ في الوفاءِ الثّاقب الواري
وبناء على ماسبق وامثاله كثيرجدا فإن الوفاء يعتبر من أخلاق العرب الأصيلة، حيث إن الرجل منهم كان ينطق بالكلمة فتصبح عهداً، عليه أن يفي به وإلا عرّض شرفه للتجريح، وكان الغدر مسبة يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليشهروا به، وفي ذلك يقول الحادرة (قطبة بن محصن)
إنهم لم يغدروا وإنهم لن يأتوا ما يشكك حليفهم فيهم:
أَسُمَيَّ ويحكِ هل سمعتِ بغَدرةٍ
رُفع اللواءُ لنا بها في مجمعِ
إنا نَعفٌّ فلا نُريبُ حليفَنا
ونَكُفٌّ شُحَّ نفوسِنا في المطمعِ(المفضليات: رقم8، ص45)
ولم تكن أخلاق القوم نظرية صورية، وإنما كانت واقعاً ضربوا به الأمثال وهى كثيرة نكتفي بنماذج منها.
ومن اجملها ما فعله عبد الله بن جُدعان في حرب الفِجَار التي دارت بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، فقال له عبد الله: أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله لو أعلم أنه لا يبقي منها إلا سيف، إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طُعنت به ما أمسكت منها شيئاً.
وكان من وفائه أن العرب إذا قَدِمت عكاظاً دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى مضارب قومهم (انظر: الأغاني، 22/6، طبعة دار الثقافة)
والي هنا اقف في الجزء الاول مع هذه الصفة الزكية والاحرف العطرة عنها لنستكمل شذى هذا الخلق السامي الرفيع في مقالين قادمين بإذن الله .