بقلم الدكتور عبدالله بن سعيد الأسمري
وليس هذا حكرا على هذا الجانب الذي سأعود له في آخر مقالي فهو فعلا يستحق التأخير، واتكلم عن جانب آخر وهو حقيقة قرآنية
قال تعالى ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
فكل ما انعم الله به هو محل سؤال للعبد بين يدي ربه يوم لا ينفع بيان أومال بل ولا زوجة اوبنون ،
وأنا عندما اخترت هذا لابين كلام العيون وتعبيرها وما يتيسر لي من توضيح لبعض الاحكام وليس المقصد استعراض كل ما ورد عن العيون مطلقا بل النظرات التي تكون تبيانا كما قال الشاعر :
والعين تنطق والأفواه صامتة.....
.. حتى ترى من ضمير القلب تبيانا.....
وفي القرآن الكريم ذكر بعض إشارات العين للدلالة على خبايا النفوس وذلك من خلال تسجيله لما يمكن أن نسميه بـ ( تبادل النظرات) في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) سورة التوبة 127، حيث يصور السياق الدلالي للآية موقف المنافقين من نزول القرآن الكريم، ويكشف تبادل النظرات بينهم، كاشفا عن مجمومة من المشاعر التي تمور في أعماقهم وتتجلى في نظراتهم، وعن تفكير يدور في أذهانهم ويرتسم في نظراتهم، فالنظرة المتبادلة حين سماع الحديث يمكن أن نكتشف منها ما يدور بالنفس من سخط وغضب، وتفاعل داخلى، وتعاون على الرفض وعدم الانقياد لامر الله .
ومنهاما ذكره الله في كتابه عنهم من نطق اعينهم بالخوف والجبن
( فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ )
كما أن نظرة الخوف عبر عنها القرآن بـ (دوران العين) تارة فقال: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) سورة الأحزاب 19 ويعبر عن نظرة الخوف أيضا بـ (اختلاس النظر) تارة أخرى فقال تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)
هذه بعض النقولات التي يسرها الله في هذا الجانب الذي تعد فيه نظرات العيون ابلغ من نطق اللسان
وقد تكون نظرة العيون ابلغ من الكلام في بيان هوية الانسان ومنهجه وما هو عليه من الديانة والحياء والتزام اوامر الشرع قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) وصرف البصر لغة راقية من الحياء لسؤال جريرعن نظر الفُجاءة؟ قال ﷺ: (اصرف بصرك)
ونجد لغة العيون لها اهمية قصوى
ومع هذا نجد في السيرة لما قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم ألا أومأت إلينا بعينك كان الحال بمجمله كما ورد عن عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم فتح مكة، أمَّنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم وذكر منهم ابن أبي سرح قال سعد: وأما ابن أبي سرح وهو[عبد الله بن أبي سرح أسلم قبل الفتح، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتد ثانية وقيل إنه كان أخاً لعثمان بن عفان من الرضاع.] فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به، حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال:
"أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟".
فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟
قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين)أخرجه أبو داود برقم (2683، 4359) والنسائي برقم (4078) وصححه الألباني. وقال ابن الملقن - بعد أن ساق الحديث -: رواه أبو داود والنسائي من حديث سعد بن أبي وقاص، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط مسلم.
ونهى القرآن عن لغة العين المحرمة في قول الله تعالى ( هماز مشاء بنميم ) قال مجاهد : الهمزة : باليد والعين
وقد قيل في المثل العربي ( رب لحظ أنمّ من لفظ)
وفي لغة العيون بياناللمراداحيانا اشد وضوحا من تعبيراللسان يقول بشار بن برد:
وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ .......
صمَتِ اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ ......
تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها.......
ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهم......
بل إن بشار جعلها لغة حوار متبادل
فهذه اللغة كما قال آخر:
وإذا العُيون تَحدّثت بلغاتِها ....
قالت مقالاً لم يَقله خَطيبُ.....
ونظيره قول الاخر :
ونشكُـو بالعيون إذا التقينا ..
فأفهَمها وتعلمُ ما أردت ..
أقُول بمقلتي أن مـتّ شوقاً
فيوحِي طرفها أن قد علمت
وربما تم تعديل في ضمائر البيت
لكن يوضح ما ورد فيه او يتقاطع معه قول الشاعر:-
وإذا العُيون تَحدّثت بلغاتِها ....
قالت مقالاً لم يَقله خَطيبُ....
وإذا كانت العيون لها لغة في الوصول بما في الوجدان من حب فكذلك نجدها ايضا تبدي ضده وهو ما تكنه من كره وعداءوهذا المعنى ورد في الشعر الجاهلي، فزهير بن أبي سُلمى يقول:
فإن تكُ في صديق أو عدو...
تُخبِّرْك العيون عن القلوبِ...
ويروى عن الامام علي رضي الله عنه انه قال :
والعين تعلم في عينَيْ محدِّثها....
إن كان من حزبها أو من أعاديها....
عيناك دلّتا عينيَّ منك على......
أشياءَ لولاهما ما كنت تُبديها....
ولعلي اختم هذا المعنى ببيت لشاعر قال عنه ابن خلكان في «وفياته» (أنه «أحد نُجباء شعراء عصره، جمع بين جودة السبك وحسن المعنى، وعلى شعره طلاوة رائقة وبهجة فائقة )ومن استهواه سر لقبه فليبحث عنه وهو الشاعر علي بن الحسن صَرَّ دُرّ (توفي 465 هـ يقول :
إن العيون لتبدي في نواظرها....
ما في القلوب من البغضاء والإحنِ...
وسلامة الحال والمآل إذا رُزق بني الانسان قلب سليم فهو اصل السلامة ومنتهاها ومآلها قال تعالى: ( إلا من أتى الله بقلب سليم )
والله الموفق والهادي .