بقلم صالح جريبيع الزهراني
كانت لبنان قطعة سماء على الأرض مثلما قال وديع الصافي .. ومثلما روَّج الإعلام اللبناني الذي لم يكن له منافس تلك الفترة .. وكانت لبنان جنةً بحسب شهادات زورٍ من بعض زوَّارها الذين كنت أظن أنهم يذهبون لبيروت ليستمتعوا بأجوائها وأشجارها وأنهارها وجبالها .. ولم أكن أعرف وقتها معنى الزحلاوي ولا معنى الحشيشة ولا معنى شارع الحمراء.
ذاب الثلج وبان المرج .. واتضح أن بيروت قبرص الشرق وليست سويسرا الشرق كما يقولون .. مدينة تغص بعصابات ومافيا القتل وتهريب المخدرات وغسيل الأموال والجواسيس والعملاء والمواخير وبنات الليل .. وترتدي معطفاً ثقافياً وفنياً لتخفي به كل ذلك القبح.
تعاطفت مع بيروت عندما نشبت بها الحرب الأهلية .. وكنت أظن أن لإسرائيل يداً في الأمر .. ولم أكن أعلم أنها حرب ( مشيخة ) ونفوذ وطائفية .. وأن كل من أصبح لديه ريش من أموال المخدرات والعمالة والتهريب والنصب يريد أن يصبح زعيماً يستقلُّ في جبل لوحده ويكوِّن جيشاً ودولة .. بل لم أكن أعلم أن بعضهم يستعين بإسرائيل نفسها على قومه.
في 2006 كادت حنجرتي تبح من التكبير فرحاً بالانتصارات التي كان يروج لها إعلام لبنان .. ولحسن الحظ أننا في ذلك الحين أصبحنا نتلقى الأخبار من جهات مختلفة .. فرأينا حجم الدمار الذي حلَّ ببيروت .. وأن ما نسمعه مجرد أكاذيب مثل أكاذيب عبدالناصر التي حلَّت بعدها نكسة حزيران .. وأن خلق البطل الوهمي ومدَّه بالسلاح والاعتراف بمليشياته لم يكن من أجل مقاومة إسرائيل وإنما لأجل التمهيد لاحتلال لبنان من قبل إيران وعميلها في الضاحية الجنوبية ضمن مشروع الهلال الشيعي.
كنت أظن البدلة الأنيقة والكرافتة زيَّاً لبنانياً تقليدياً .. وأن أناقة المظهر دليل على أناقة الجوهر .. وأن الكلمات اللطيفة التي ( تخثع ) بالإنسان على وجهه من الخجل تدل على لطف السلوك وحسن المعاملة .. وأن لبس الماركات تدل على الغنى .. وأن الغنى يدل على ذكاء اللبناني .. وأن ذلك العامل الأنيق في المطعم لابد أنه يحمل شهادة الدكتوراة في الفيزياء النووية ولكن الظروف أتت بها إلى هنا.
وعندما انقشع الغبار عرفت أن البدلة فرنسية والنطفة رومانية .. وأن سركيس وسرخيس وجورج وطوني وخوري لا يمكن أن يكونوا عرباً أبداً حتى وإن نطقوا بلسان عربي مبين .. وأن المظهر الأنيق ذاك ليس إلا ريش طاووس يخفي جسداً هزيلاً .. وحيلةً لعائل مستكبر يرفع أنفه عند من يكرمه ويخفضه عند من يمرِّغه .. وأن الكلمة اللطيفة تلك ليست سوى مهنة وصناعة وحرفة .. يتم استخدامها بإتقان للوصول للهدف ثم يُلقى بها في أقرب صندوق نفايات .. وأن شهادة الدكتوراة تلك كانت في ( الكبّة النيّة ) .. وليتها صحيحة .. بل مزورة أيضاً .. وأن الذكاء يتجه ويتم صرفه في الاحتيال والنصب والوساطة والرشوة والسمسرة والسيطرة على المال ثم الهروب الكبير .. وقبل الهروب تعودنا من السيد الأنيق الطفيلي أن يحرق الجسور .. فيعض اليد التي امتدت إليه .. ويبصق في البئر التي شرب منها .. ثم يشتمنا بكل وسيلة ممكنة .. لأنه ببساطة حاسد حاقد وصولي رخيص لا كرامة له .. يحسدنا على ثرواتنا التي وهبها الله لنا .. بل ويحسدنا حتى على وجود مكة والمدينة بأرضنا.
صدقوني .. أن مشكلتنا ليست في الغباء أو الجهل أو البداوة .. كما يحلو لأولئك تسميتنا .. إذ رغم غبائنا وجهلنا وبداوتنا كما يقولون إلا أننا أصبحنا أفضل منهم .. وتفرق بيننا وبينهم سنوات ضوئية حضارية .. وإنما مشكلتنا الحقيقية في سلامة صدورنا وحسن نوايانا وصدقنا وأخوتنا وكرمنا وتعاملنا الحسن مع ( زعران ) قادمين من غابة بيروت (غابة الموت والعصابات والمخدرات) .. الذين يأكلون بعضهم البعض في ديارهم .. ويدوس غنيهم على فقيرهم .. ويلعن كبيرهم ( خيّر ) صغيرهم .. ويغوصون في بحر من الخلاف والتخلف والرذائل والزبائل ثم يصرخون بوجوهنا: ( نحنا يا اللي علمناكو ).
مشكلتنا .. أن الفستان الأنيق والبدلة والكرافتة لا زالت إلى اليوم تخدعنا .. وتعمي أعيننا .. ( فنفغر ) ونجعل من معلم ( الفطائر ) مهندس عمائر .. ومن خبيرة الشعر والمكياج خبيرة اقتصادية وواجهة إعلامية .. ولو أننا تخلصنا من هذه ( الفغرة ) وأدركنا الأمور كما هي لعلمنا أن أكثر شرورنا من ( صهاينّا ).
يقول خلف بن هذال:
من دون صهيون بذّتنا صهاينّا.
*صالح جريبيع الزهراني*
الاثنين 1 نوفمبر 2021
جدة